عندما كانت "أنيكا" في الرابعة عشرة من عمرها، شهدت مأساة مروعة في منزلها في ناميبيا، حيث تعرضت والدتها للاعتداء الجسدي والمضايقة، بل وحتى لمحاولة قتل.
لم يكن عنف زوج أمها مجرد حادثة عابرة، بل كان جرحاً عميقاً ترك آثاراً لا تمحى في ذاكرة "أنيكا". لقد أثرّ تعرضها للعنف القائم على النوع الاجتماعي والعنف المنزلي، دون وَعي منها، على نظرتها للعالم وطريقة تفاعلها معه. فقد أصبحت تكرر سلوك والدتها في علاقاتها في مرحلة البلوغ، وتحمل تلك التجارب الأليمة معها في رحلتها مع تحديات الحياة.
وقالت "أنيكا": "عندما انتقلت إلى جنوب أفريقيا في سن التاسعة عشرة، انخرطت في علاقة رومانسية اتسمت بالإساءة اللفظية والمالية والترهيب. لقد بدا الأمر عادياً، ولم أدرك لفترة طويلة أنها إساءة".
بالنسبة للعديد من الناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي، لا تقتصر الصدمة على الحادث نفسه. بل تتجلى العواقب في صورة القلق والاكتئاب والشعور المشوه بالذات.
وأشارت "ناتالي دوس سانتوس لويس"، عالمة النفس البرازيلية المتخصصة في الصحة السلوكية بمراكز مونارك الصحية في دبي، إلى أن "الناجيات من العنف يلتمسن العلاج ليس بسبب العنف في حد ذاته، بل لما يخلّفه من آثار نفسية وعاطفية. وأضافت أن الكثيرات منهن لا يربطن بين الأمرين، وقد يتجاهلن حقيقة العنف أو يعتبرنه أمراً عارضاً لا يرتبط بمعاناتهن."
قبل أن تستقر في الإمارات العربية المتحدة، كرّست "أنيكا" جهودها لخدمة النساء في المجتمعات المسيحية، حيث وجدت في دعمهن وتشجيعهن ملاذاً. لكنّها لم تدرك حينها أن دافعها الدائم لمساعدة الآخرين كان في الواقع هروباً من مواجهة جروحها النفسية العميقة، ردّة فعل لتجربة مؤلمة لم تُشفى منها بعد.
وقالت: "كرّست نفسي لبناء حياة أفضل للعديد من النساء، بينما كنت أنا أتحطم في صمت. أدرك الآن أن انغماسي في مساعدة الآخرين كان محاولة يائسة للهروب من مواجهة جروحي الداخلية: القلق الشديد، والغضب الجامح، ونوبات الهلع التي تُلاحقني بلا هوادة، كلها ندوب عميقة خلّفها العنف الذي عايشته وقاسيت منه."
في عامها الثالث والثلاثين، وبعد أن حطّت رحالها في دبي، انقلب العالم رأساً على عقب مع جائحة كوفيد. وجدت "أنيكا" نفسها فجأة معزولة، مجبرة على الانسحاب من محيطها الذي لطالما وجدت فيه متنفساً لدعم النساء الأخريات. وأضافت: "فرض عليّ العزل مواجهة قاسية مع ذاتي، مع حقيقة كنت أهرب منها دائماً، حقيقة من أكون بعيدة عن أعين الناس، وراء الأبواب المغلقة."
قادها البحث عن العلاج إلى مواجهة جروحها العميقة. تقول "أنيكا": " أدركت حينها مدى تأثير ماضيّ على شخصيتي. لم أكن محطمة، بل كنت مجروحة."
وترى "لويس" أن العلاج النفسي بمثابة رحلة تحوّل تغير فيها الناجيات من العنف نظرتهن للحياة. وأوضحت قائلة: "يتعلق الأمر بالوعي الذاتي. إن إدراك الآثار النفسية للصدمات يمنحهن القدرة على الاختيار، والتحكم في حياتهن، والأهم من ذلك، البدء برحلة الشفاء."
رغم القدرة الكبيرة للعلاج على إحداث التغيير الإيجابي، إلا أن الوصول إليه لا يخلو من التحديات. فبالنسبة لـ "أنيكا"، شكّلت الوصمات الثقافية عائقاً في البداية، ومنعتها من الاعتراف بحاجتها إلى المساعدة.
قالت "أنيكا": "في البيوت الأفريقية، لا مكان لحديث الصحة النفسية. القلق أو الاكتئاب؟ أنت مجرد شخص كسول!"
وتؤكد "لويس" أن تجارب "أنيكا" تعكس تحديات عالمية تحول دون لجوء الناجيات إلى الرعاية اللازمة.
وأردفت "لويس" قائلة: "للأسف، ينتشر العار والخوف من الوصمة والشعور باليأس بين الناجيات على نطاق واسع. فالمعايير الثقافية والأنظمة الذكورية غالباً ما تتجاهل أو تُسهّل العنف القائم على النوع الاجتماعي. وقد يصل الأمر بالنساء إلى الاعتقاد بأنهن يستحقّن هذا العنف، أو أن طلب المساعدة لن يغير من واقعهن المؤلم."
ومن أعمق الطرق التي يساعد بها العلاج النفسي هو كسر حلقة العنف المفرغة. بالنسبة لـ "أنيكا"، كان فهم السلوكيات في علاقاتها السابقة خطوة محورية في رحلتها نحو التحرر.
قالت "أنيكا": "أدركت أن دفاعيتي المستمرة ورفضي الاعتماد على الآخرين لم يمثلا شخصيتي الحقيقية، بل كانا مجرد آليات دفاعية تشكلت منذ طفولتي."
وأكدت "لويس" على أهمية التثقيف النفسي، باعتباره ركيزة أساسية في العلاج، ودوره الحاسم في هذه العملية. وأضافت: "إن فهم ديناميكيات الإساءة يمكن الناجيات من رؤية السلوكيات السلبية واتخاذ خيارات واعية للتحرر من البيئات المُسمّمة. يوفر العلاج الأدوات اللازمة لمعالجة الصدمات وبناء مستقبل أكثر صحة."
وتزداد رحلة الشفاء تعقيداً بسبب المتاهة القانونية التي تواجهها الناجيات من العنف. تسلّط "مادلين ميندي"، الشريكة ورئيسة قسم قانون الأسرة في شركة بن سيفان للمحاماة والاستشارات القانونية في دبي، الضوء على الكيفية التي يُمكن أن يفاقم بها نظام العدالة من صدمة الضحايا.
وأضافت: "على الرغم من الخطوات الكبيرة التي خطتها دولة الإمارات العربية المتحدة في مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي، إلا أن هناك بعض التحديات التي لا يزال يجب النظر فيها. فقد تخشى الناجيات من العواقب القانونية لمثل هذه الجرائم، مثل اتهامات استهلاك الكحول، أو التشهير، أو إقامة علاقات خارج نطاق الزواج."
"وهذا يُفاقم من وطأة الصدمة ويثبط عزيمتهن عن طلب المساعدة القانونية، وخاصة في حالات العنف الجنسي."
وإذا قررت الناجيات الإبلاغ، فإنهن يواجهن معاناة قاسية تتمثل في إعادة سرد تفاصيل صدمتهن مرات عديدة، أولاً للمتخصصين الطبيين، ثم لضباط الشرطة المختلفين، وأخيراً في بياناتهن الموقعة. وتشير "ميندي" إلى أن تكرار هذه الرواية يشكّل عبئاً عاطفياً هائلاً على الناجيات، مما يُثني الكثيرات عن المضي قدماً في قضاياهن.
وغالباً ما تتردد الناجيات في طلب الدعم من المتخصصين في الصحة النفسية أيضاً، خشية أن تُستخدم حالتهم النفسية ضدهم في الإجراءات القانونية.
لقد أصبحت "ميندي" مدافعة مخلصة عن ضحايا العنف القائم على النوع الاجتماعي. وبالرغم من إقرارها بالتحسّنات الكبيرة في الحماية القانونية للضحايا، إلا أنها ترى أن هذه التحسّنات لم تصل بعد إلى مراكز الشرطة بشكل فعلي. فالسياسات موجودة، لكن تطبيقها على أرض الواقع يتطلّب تغييراً جذرياً في العقلية. ونتيجة لذلك، غالباً ما تظلّ تجارب الضحايا مع الشرطة مُحبطة وغير مرضية.
اليوم، تصف "أنيكا" نفسها بأنها في رحلة مستمرة نحو التعافي، لكنها تشعر بالقوة والتحرر بفضل ما حققته من تقدم. وتؤكد كل من "لويس" و"ميندي" على أهمية توفير موارد سهلة الوصول ومراعية للفروقات الثقافية لدعم ضحايا العنف القائم على النوع الاجتماعي.