ألهمتني أحداث هذا الأسبوع للتأمل في رموز النضال، وكيفية تطورها عبر الزمن.
لقد سجّل التاريخ بأحرف من نور ملاحم المناضلين من أجل الحرية في كل مكان، فخلّد تضحياتهم الجسام في سبيل قضايا عادلة، وكيف صمدوا في وجه المعاناة، وقدّموا أرواحهم فداءً لمبادئهم. وفي بعض الأحيان، شاءت الأقدار أن ينجوا من براثن الموت، ليقطفوا ثمار نضالهم، وينعموا بالحرية التي رووها بدمائهم، فاستحقوا كل تكريم وافتخار.
لكن في حالات أخرى، كثيرة هي للأسف، يتشبّث الزعيم بالسلطة، متجاوزاً حدود المعقول، فتتخلى عنه الحركة، وتُهمّش القضية لصالح رؤية فردية ضيّقة، وتنتهي الثورة إلى غير مبتغاها.
ولكن، في حالات نادرة، يبقى الرمز حياً. فجميعنا يعرف صورة "تشي جيفارا"، تلك الصورة التي زينت الأعلام، وتألقت على قمصان طلاب الجامعات المتحمسين للعمل السياسي. لكن جيلنا اليوم ينظر إلى هذه الشخصية بعينٍ ناقدة، مُعيداً النظر في تاريخها وإرثها. ولعلّ هذا التغيير في النظرة يُعبّر عن إيمان جيلنا بأهمية مركزية الحركة، وضرورة دعم الفئات المهمّشة، لا استخدامها كأدوات سياسية.
وهذا حال فلسطين، وتحديداً قضية التحرير، التي تجسّدت مؤخراً في مقتل يحيى السنوار.
ورغم كل ما قدّمه في حياته، تبقى آماله في شعب فلسطيني حر، ينعم بدولة مستقلة، آمالاً مشروعة. إنّ موت السنوار، بغضّ النظر عن كيفية حدوثه ومكانه وأسبابه، ليس نهاية المطاف، بل هو إشارة إلى أنّ الحركة ستمضي قدماً، وستواصل مسيرتها النضالية.
قد ينتاب المرء شعور بالانكسار والضياع، ولكنّه مع ذلك يجد في نفسه شرارة إرادة لا تلين لمحاربة عدو أقوى منه، وأكثر خبثاً وتقدّماً من الناحية التكنولوجية. فهل يُعقل أن يُروّج لموت هذا المناضل باعتباره نصراً عظيماً ونهائياً؟ فهل يستطيع ساسة الغرب فعلاً الإشارة إلى مزايا القتل؟
متى كانت آخر مرة خمدت فيها شعلة حركة بموت زعيمها؟
هنا يكمن جوهر نشأة جيلنا الرقمي، جيل التواصل والأفكار الخالدة، التي تتخطّى حدود الزمان والمكان على شبكة الإنترنت، لتبقى حيّة مهما تعاقبت الأجيال. إننا جيل يدرك ما يدور حوله، ونتواصل ونعي ما نمرّ به في شتّى بقاع العالم، متجاوزين كل عوامل التفرقة والانقسام، سواءً كانت عرقية أو دينية أو غيرها. نحن نعرف من هو السنوار ونُدرك ما قدّمه، كما أننا نعي أسباب نضاله، وهذا ما سيجعلنا دائماً نشكّك في أولئك الذين يحاولون فرض رواياتهم وتزييف الحقيقة.
تواصل الحركة مسيرتها، شامخة في وجه المحن والتحديات. وكم يؤلمني أن تحدد انتخابات بلد واحد مصائر شعوب بأكملها، في وقت تُحرم فيه الأصوات الفلسطينية من أبسط حقوقها في التعبير عن رأيها. ويبدو أن العدالة غائبة، فمن بيدهم زمام القرار لا يكترثون لمعاناة الآخرين. لكننا نحن، الذين عايشنا الواقع المُرّ، ورأينا ما رأينا، وفعلنا ما فعلنا، لن نيأس أبداً، وسنواصل النضال حتى تحقيق العدالة.
كيف سأجيب أطفالي بعد ثلاثين عاماً، في حال نجا العالم من تغيّر المناخ الناجم عن أنشطة الإنسان، عندما يسألونني: "ماذا فعلتم لوقف الإبادة الجماعية؟"
هل سأقول، "لقد كان الأمر صعباً، لن تفهموا"، أم "كانت الظروف مختلفة، ولم يكن بإمكاننا حتى الكلام"؟
إنّ نشر لقطات اللحظات الأخيرة في حياة السنوار لن يؤدي إلا إلى تأجيج مشاعر الغضب والحزن لدى كل من يحمل ذرة من الإنسانية والتعاطف. فلا منطق في أن نطالب بالعدالة والحرية للشعب الفلسطيني، ونحن في الوقت نفسه نقف مُتفرّجين على استمرار الانتهاكات في غزّة والضفة الغربية وجنوب لبنان. إنّ وقف إطلاق النار، وإنهاء الاحتلال، وضمان أمن قوات حفظ السلام هي المطالب الأساسية والملحّة لتحقيق العدل في فلسطين.