الصحة النفسية للرجال: ضرورة ملحة في ظل التحديات المجتمعية
تُعد الصحة النفسية لدى الرجال أمراً سرياً للغاية ويحاوطها الصمت تماماً، وهو الأمر الذي نعلم أنه يجب معالجته ولكننا نلتزم الصمت بشأنه. وبما أن التحديات التي يواجهها الرجال تختلف تماماً عن تلك التي تواجه النساء، فمن المهم التطرق للأمر. ومن حسن الحظ، وخاصة بعد جائحة كوفيد، اكتسبت هذه المحادثة زخماً، حيث تقدم المنظمات في جميع أنحاء العالم الدعم للرجال الذين يعانون من الأمر وتركز على توفير المعلومات والدعم لهم.
وتثبت الإحصائيات أن الرجال يترددون أكثر من النساء في طلب العلاج، وبالتالي يكونون أكثر عرضة للانتحار. وقد أظهرت الدراسات أن طلب العلاج يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على الصحة النفسية، حيث يخفف الدعم من قبل المتخصصين في الرعاية الصحية والأحباء من الأعراض، ويحسن نوعية الحياة، ويقلل من خطر وقوع حادث مميت.
وعلى الصعيد المحلي، أدت الجائحة إلى زيادة انتشار الوعي بقضايا الصحة النفسية، بما في ذلك القلق والاكتئاب والتوتر بسبب العزلة أو انعدام الأمن المالي أو تأثير العمل عن بعد، مما دفع دولة الإمارات العربية المتحدة إلى وضع مسألة الصحة النفسية ضمن الأولويات خلال فترة التعافي بعد الجائحة.
وبشكل عام، اتخذت الدولة خطوات لمعالجة مشاكل الصحة النفسية، وتتركز الجهود لخلق بيئة داعمة، حيث يؤكد القطاعان الحكومي والخاص بشكل متزايد على أهمية الصحة النفسية.
ما يقوله سكان الإمارات العربية المتحدة والمعالجون عن الصحة النفسية للرجال:
فهم العلامات
الدكتور وليد العمر، أخصائي الطب النفسي في مستشفى ميدكير الشارقة، يرى أن تعامل الرجال مع الصحة النفسية يتأثر غالباً بالمعايير المجتمعية حول الرجولة، مما يؤدي إلى عدم الإبلاغ وتفضيل الحلول التي لا تتطلب مناقشة المشاعر.
يقول الدكتور العمر: "من ناحية أخرى، نجد أنه من السهل على النساء طلب الدعم والتعبير عن معاناتهن. لا تعني هذه الاختلافات أن أحد النهجين أفضل من الآخر، لكنها تشير إلى أهمية تخصيص الدعم المقدم في مجال الصحة النفسية لتلبية الاحتياجات الشخصية، مع الاعتراف بتأثير التجارب المرتبطة بالجنسين".
يوضح الدكتور العمر أن هناك عدة عوامل تؤثر على ظهور مشاكل الصحة النفسية لدى الرجال. "يمكن أن تكون هذه العوامل بيولوجية ونفسية واجتماعية، وغالباً ما تتفاعل مع بعضها البعض لتؤثر على الصحة النفسية. من المهم أن نتذكر أن مشاكل الصحة النفسية لا تواجه البالغين فقط، بل يمكن أن تؤثر أيضاً على المراهقين والشباب".
ويضيف: "هناك دائماً علامات تحذيرية تؤدي إلى وقوع سيناريو يتعلق بالصحة النفسية - مثل الإحباط أو الانفعال، أو العزلة أو الانسحاب، أو الانخراط في أنشطة متهورة أو زيادة استخدام العقاقير، أو التغيرات في أنماط النوم، أو الحزن المستمر، أو الشعور بعدم القيمة، أو صعوبة التركيز".
ومع ذلك، يحذر الدكتور العمر من أن الأعراض المذكورة أعلاه لا تشير جميعها إلى وجود حالة متعلقة بالصحة النفسية في حد ذاتها، ولكن استمرار هذه الأعراض يمكن أن يشير إلى أن الوقت قد حان لطلب الدعم.
"يمكن أن يحدث التدخل المبكر فرقاً كبيراً، لذا فإن تشجيع إجراء محادثات صريحة وتقديم الدعم أمر بالغ الأهمية. لقد أحرزت دولة الإمارات العربية المتحدة تقدماً ملحوظاً في تعزيز الوعي بالصحة النفسية. إن تركيز هيئة الصحة بدبي على الصحة النفسية والحملات التي تقودها الحكومة تشجع الناس على التحدث عن مشاكلهم فيما يتعلق بالصحة النفسية، مع توسيع نطاق الوصول إلى خدمات الصحة النفسية، وتقديم العيادات الخاصة والعامة للاستشارات والعلاج والرعاية النفسية. كما تحسن توافر منصات العلاج عبر الإنترنت، مما يوفر المزيد من إمكانية الوصول ويتيح خيار إخفاء الهوية."
ويقول إن هذا الأمر مهم بشكل خاص لأن دولة الإمارات العربية المتحدة تعد مركزاً للأعمال التجارية الدولية وقطاع الشركات، كما أن التوتر في مكان العمل يمثل مشكلة شائعة. "لقد دفع ذلك الشركات إلى تبني سياسات داعمة أكثر للصحة النفسية مثل تقديم برامج مساعدة الموظفين وإجراء حوارات صريحة حول الصحة النفسية".
الوعي أمر بالغ الأهمية
ويقر الدكتور جاري فيفر، الأستاذ المساعد لعلم النفس بجامعة هيريوت وات، بأن دمج الوعي حول الصحة النفسية في المناهج التعليمية يوفر فوائد هامة من حيث الرفاه الفوري والنجاح على المدى الطويل في مرحلة البلوغ. "عبر تطبيق ذلك، يمكن للمؤسسات تطبيع سلوك طلب المساعدة، والحد من الوصمة حول الأمر، وتزويد الطلاب بالمهارات الأساسية مثل المرونة وإدارة المشاعر والضغوط التي تواجههم".
ويوضح: "تساعد استراتيجية التدخل المبكر في بناء ثقافة الانفتاح، حيث يمكن الوصول بسهولة إلى الدعم النفسي والاعتراف به باعتباره ضرورياً. وعلى المدى الطويل، تعمل هذه المهارات على إعداد الأفراد لإدارة ضغوط العمل بشكل أفضل، والحفاظ على العلاقات الشخصية، والمساهمة في مجتمع داعم وشامل أكثر"، مضيفًا أنه من خلال دمج الوعي بالصحة النفسية في التعليم، يمكن للمدارس تمكين الأجيال القادمة من النجاح عاطفياً ومهنياً، مما يؤدي في النهاية إلى خلق مجتمعات أكثر مرونة.
ويقول إن الطلاب الذكور معرضون بشكل خاص لتحديات الصحة النفسية بسبب الضغوط المرتبطة بالأداء الأكاديمي والتوقعات المجتمعية والتكيف مع البيئات الجديدة. "تشير الأبحاث إلى أن الطلاب الذكور غالباً ما يخفون معاناتهم المرتبطة بالصحة النفسية، ويلتزمون بالمعايير الذكورية التقليدية التي تثبط الانفتاح العاطفي. ويتفاقم هذا التردد بسبب التوقعات المجتمعية بأن يعتمد الرجال على أنفسهم دائماً وأن يتسموا بالقوة، مما يجعلهم لا يطلبون المساعدة. تشمل العلامات الشائعة لمشاكل الصحة النفسية بين الطلاب الذكور الانسحاب الاجتماعي والعصبية والتدني المفاجئ في الأداء الأكاديمي والتغيرات في أنماط النوم وتعاطي المخدرات".
خلق مساحات للمناقشة
سكوت أرمسترونج، مؤسس منتل - وهي منصة مقرها الإمارات العربية المتحدة لدعم الصحة النفسية في مكان العمل والمجتمع - يرى أن هناك تحولاً كبيراً في الإمارات العربية المتحدة في المحادثة حول الصحة النفسية لكل من الرجال والنساء. ويقول: "إن المبادرات مثل نظام دبي للصحة النفسية وبرامج الرفاهية المختلفة في مكان العمل توفر مساحة أكبر لإجراء هذه المناقشات، ولكن لا يزال هناك المزيد من العمل الذي يتعين علينا القيام به".
ويضيف سكوت: "من السهل تجاهل أو إساءة تفسير التحديات المتعلقة بالصحة النفسية لدى الرجال. فالرجال الذين يواجهون ضغوطاً مالية أو ضغوطاً في العمل أو تحديات في العلاقات معرضون للخطر أكثر. وغالباً ما تؤدي الوصمة المرتبطة بطلب الدعم إلى تفاقم المخاطر، حيث يشعر العديد من الرجال بأنهم مضطرون إلى "التغلب على الأمر" بدلاً من طلب الدعم".
وفي شرحه للدور الذي يؤديه العقل، يقول: "نهدف إلى جعل المحادثات حول الصحة النفسية للرجال أمراً متقبلاً من خلال تعزيز الحوار الصريح عبر المنصات المختلفة مثل البودكاست والمبادرات المجتمعية، وخلق مساحات آمنة حيث يشعر الرجال بأنه يمكنهم مشاركة قصصهم. يتم ذلك من خلال نشر الوعي ضمن الرجال حول أن طلب الدعم هو أمر جيد - وأن القوة الحقيقية تأتي من إدراك متى يحتاج أحدهم إلى الدعم والسعي للحصول عليه".
يقول نيك جيه ثورب، مؤلف ومستشار مقيم في الإمارات العربية المتحدة: "فيما يتعلق بالصحة النفسية، تكمن المشكلة في أنه غالباً ما لا يدرك المرء أنه بحاجة إلى المساعدة حتى تقع مشكلة ما". "بالنسبة لمعظمنا، فإن الاهتمام بالصحة النفسية بنهج استباقي هو مفهوم جديد، وخاصة بالنسبة لنا نحن الذين ولدوا قبل عام 2000. بالنسبة لي، لم تكن هناك لحظة محددة دفعتني إلى إدراك أن الأمور لم تكن على ما يرام؛ كانت سلسلة تراكمية من الأحداث. من المهم التعرف على تلك اللحظات واتخاذ قرار مدروس. لعبت الجائحة دوراً كبيراً بالطبع، ولكن ضغوط العمل اليومية كانت عاملاً مؤثراً أيضاً، بالإضافة للوفيات بالأسرة، ومرض الأصدقاء ... كان هناك ألف شيء أحدث جروحاً صغيرة في صحتي النفسية ".
"اكتشفت الأمر عندما تحدثت أخيراً مع مختص. في نهاية المطاف، يتم تدريب المتخصصين في الصحة النفسية على فهم التحديات التي تواجهك. وهناك شعور كبير بالتحرر عندما يتفهم شخص غريب مشاعرك ويعبر عنها بدقة بعد أن عايشتها في عزلة."
ومع ذلك، يقول نيك، على الرغم من اتخاذ خطوات كبيرة لرفع الوصمة عن الصحة النفسية للرجال، إلا أن الطريق لا يزال طويلاً. "أعتقد أن الأمر يتعلق بالأجيال - أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 35 عاماً تم تربيتهم على أن يكونوا "رجال" و"أقوياء" وأن يدفنوا مشاعرهم الحقيقية تحت درع من التفاؤل الزائف واللامبالاة".
"إنها إذن خطوة رائعة ــ إن الوصول إلى الدعم عبر التطبيقات والمواقع الإلكترونية (مثل BetterHelp) يجعل طلب المساعدة أسهل. ولكنني أود أن أرى المزيد من الرجال يتواصلون مع أصدقائهم ويسألونهم ببساطة "هل أنت بخير؟""
التعامل مع الوصمة
يقول بلال محمد، محرر صحيفة زينيث: "أدركت أهمية الصحة النفسية بعد تشخيص إصابتي بورم في الدماغ وقضاء ثمانية أشهر في التعافي من الجراحة. لقد أثرت التجربة برمتها عليّ. وجدت نفسي في دوامة من التوتر ولم أستطع التأقلم في كثير من الأحيان. لم يكن البقاء في المنزل مفيداً على الإطلاق. بدأت الأشياء البسيطة تشعرني بالإرهاق، ولاحظت ظهور أعراض جسدية مثل التعب والغضب. وصلت إلى نقطة أدركت فيها أنني يجب أن أفعل شيئاً بشأن ذلك. لم يعد الأمر يتعلق فقط بتجاوز تلك الأيام؛ بل كان يتعلق باتخاذ قرار واعٍ لإعطاء الأولوية لصحتي النفسية".
يقول إن مسألة الصحة النفسية للرجال لا تحظى بالاهتمام الذي تحتاج إليه، على الرغم من إحراز بعض التقدم بالفعل. "لقد عانيت من هذه الوصمة بنفسي. يجد الناس صعوبة في أن يكون "رجل ضخم" مثلي عاطفياً. هناك قاعدة ضمنية مفادها أن الرجال الذين لديهم مظهر معين لا يمكن أن يكونوا عرضة للخطر، وهذا يمكن أن يضيف المزيد من الضغوط عليهم".
يؤمن بلال بأن العديد من الرجال هم بحاجة إلى الدعم ولكنهم يترددون بسبب الخوف من الحكم عليهم، وأحياناً بسبب توقعات المجتمع التي مفادها "كن رجلاً". "بالإضافة إلى ذلك، هناك نقص في الوعي أيضاً. قد لا يدرك البعض حتى أنهم يعانون من مشاكل نفسية. أعتقد أن البحث عن الدعم قد يكون أمراً مرهقاً، ويبدو أنه لا يوجد دعم كافٍ - سواء عبر الإنترنت أو في مجتمعاتنا - لبناء بيئة تشعر فيها بالأمان والقبول بالتواصل عندما تحتاج لذلك".
مروان البنا، المدرب الإماراتي الرئيسي في مركز اللياقة البدنية المجتمعي التابع لمجموعة إعمار للضيافة "فيو" (الذي يعقد بانتظام فعاليات لزيادة الوعي بالصحة النفسية من خلال برامج اللياقة البدنية)، يشجع الرجال على النشاط البدني للحفاظ على لياقتهم - نفسياً وجسدياً.
وبحسب قوله، فإن الصحة النفسية تشكل جانباً بالغ الأهمية من جوانب الرفاهية العامة للجميع، بما في ذلك الرجال. "إن الوصمة المحيطة بالصحة النفسية للرجال غالباً ما تؤدي إلى تصور مفاده أنه يجب أن يكونوا قادرين على التعامل مع مشاكلهم بأنفسهم. وقد يكون ذلك ضاراً، حيث أن كبت المشاعر يمكن أن يؤدي إلى أساليب تكيف سلبية مثل تعاطي المخدرات".
حقائق سريعة من الدكتور العمر:
من هو المعرض للخطر؟
>> الرجال الذين تعرضوا لصدمة
>> الرجال الذين يواجهون مشاكل مرتبطة بإيجاد عمل
>> الرجال الذين تعرضوا لانهيار زواجهم
>> الرجال الذين لديهم مخاوف مرتبطة بقضايا قانونية أو مالية
>> الرجال الذين يتعاطون الكحول بصورة غير سليمة أو المخدرات
>> الرجال الذين لديهم تاريخ عائلي من مشاكل الصحة النفسية
ستة أمراض نفسية شائعة عند الرجال
>> الاكتئاب: يتجلى في الانفعال أو الغضب أو العدوانية، وليس الحزن المعتاد. ويمكن أن يتجلى في أعراض جسدية مثل الصداع أو مشاكل الجهاز الهضمي أو الألم المزمن
>> اضطرابات القلق: تشمل اضطراب القلق العام، واضطراب الهلع، واضطراب الرهاب الاجتماعي، والرهاب المحدد
>> اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD): غالباً ما يظهر لدى الرجال الذين تعرضوا لصدمة، مثل المحاربين القدامى
>> اضطرابات التعاطي: الرجال أكثر عرضة لإساءة استخدام الكحول للتعامل مع التوتر أو الاكتئاب أو القلق
>> الاضطراب ثنائي القطب: فترات متناوبة من الهوس (تقلب الحالة المزاجية، والطاقة العالية، والاندفاع) والاكتئاب
>> الأفكار الانتحارية: معدلات الانتحار أعلى بين الرجال، وخاصة أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 45 عاماً. الرجال أكثر عرضة لتجربة أساليب مميتة، مما يساهم في ارتفاع المعدلات