"النيوروجرافيك".. فن لتحقيق الشفاء العاطفي والتنظيم الذاتي
يمتاز المبدعون بفطرة سليمة وحس مرهف، فالفنانون والكتاب والمفكرون يملكون قدرة استثنائية على الغوص في أعماق ذواتهم، وتسخير هذه القدرة في إبداعاتهم، فتصبح أعمالهم انعكاساً لأرواحهم، وتقودهم إلى حالة من الانغماس والتركيز، حيث ينسون فيها أنفسهم وهم يمارسون فنهم.
لطالما رافق مفهوم "التركيز" البشرية عبر العصور، فقد عُرف عن "مايكل أنجلو" انغماسه التام في فنه لدرجة نسيان الطعام والشراب، وحتى "إسحاق نيوتن" اختبر تركيزاً عميقاً مشابهاً أثناء عمله. ويتشابه مفهوم "وو وي" الطاوي، أو العمل دون جهد، مع "التركيز" إلى حد كبير، كما يتقاطع مع فكرة أرسطو عن "اليوديمونيا" أو حالة "امتلاك الروح الطيبة".
ما هي حالة التركيز؟
في عالمنا المُشبّع بالمشتتات، حيث أصبح التوتر والإثارة المفرطة سمة غالبة، تبرز الحاجة إلى الوصول إلى "التركيز"، ليس فقط لحماية عقولنا من الإرهاق، بل لتحقيق التوازن في صحتنا النفسية. فالمشاركة في الأنشطة الإبداعية تنشط مناطق الدماغ المسؤولة عن تنظيم العواطف، ومعالجة التجارب، وتشكيل مسارات عصبية جديدة. وعندما ينغمس الدماغ كلياً في التعبير الإبداعي، يفرز الدوبامين، وهو ناقل عصبي مرتبط بالمتعة والتركيز والدافعية. تساعدنا هذه الروابط العصبية على التعامل مع التوتر، وإدارة المشاعر، ومواجهة التحديات بمرونة أكبر. ولهذا السبب، يمكن للرقص والفن والموسيقى أن تشعرنا بالسعادة، وحتى بالتطهّر، خاصة في أوقات الضغط النفسي.
لطالما كان الفن ملاذاً علاجياً سهل المنال، ومن بين أشكاله التي حظيت برواج متزايد، نجد "النيوروجرافيك". وقد طوّرها عالم النفس والمهندس المعماري الروسي "بافيل بيسكاريف"، وهي تقنية رسم فريدة تربط بين العقل الواعي واللاواعي من خلال خطوط وأنماط بسيطة تتدفق بانسيابية. ويمثل هذا الفن أكثر من مجرد وسيلة تعبير، إنه نهج علاجي مصمم لتوثيق الصلة بعالمنا الداخلي، وإزالة الحواجز العاطفية.
لا تستلزم ممارسة فن "النيوروجرافيك" أي مهارات فنية مُسبقة، فالمُشاركون ببساطة يرسمون خطوطًا وأشكالًا، ويتركون العملية تتطور بتلقائية ودون أحكام مُسبقة. تُشجع هذه الممارسة على الوعي التام، والتخلي عن التوقعات، واحتضان كل ما يطفو على السطح. وتُعدّ هذه العملية بمثابة رحلة تحوّل، تُقدم رؤى ثاقبة، وتُحرر الانفعالات، وتُنشئ مسارات عصبية جديدة تُعزز المرونة والوعي الذاتي.
تقول "بريندا جانواني"، المؤسسة المشاركة لـ "بي آند سي ميراكل ميثود" (B&C Miracle Method): "لقد تعمقت في هذا الأسلوب عندما كنت أشعر بالإحباط والتعب المستمر، وبحاجة ماسّة إلى دفعة من التحفيز. وبعد انتهائي من جلستي الأولى في "النيوروجرافيك"، شعرت بانفتاح داخلي مذهل، وامتلأت بالطاقة والإبداع والأفكار، وعندها قررت التعمق أكثر". لم تقتصر استفادة "بريندا" من هذا الأسلوب على تكوين مسارات عصبية جديدة لنفسها فحسب، بل امتدت لتشمل عملائها أيضاً، حيث تستخدم "النيوروجرافيك" مع التأمل للوصول إلى العقل الباطن، والتعامل مع المشاعر المكبوتة، والمعتقدات المقيّدة، وحتى للشفاء من صدمات الأجداد. وتُضيف: "يتمحور الأمر حول رسم خطوط حرة، ثم اتباع خوارزمية محددة للتعبير عن إبداعك في عمل فني ممتع".
إذا رغبت في خوض تجربة هذه الطريقة البسيطة والغامرة لتحقيق التنظيم الذاتي والشفاء، فإليك الخطوات التي توصي بها "بريندا" لإنشاء رسم نيوروجرافي:
خطوات إنشاء رسم نيوروجرافي:
تهيئة المساحة
* اختر مكاناً هادئاً بعيداً عن أيّ إزعاج.
* أشعل شمعة أو بخوراً لتهيئة الأجواء المناسبة.
جمع الأدوات
* قلم (يفضل أن يكون قلم جل أو لباد).
* ورقة بيضاء.
* أقلام تلوين وتحديد.
تحديد النية
* للتدريب، سنركز على موضوع: "التلقي من أمنا الأرض".
* أغمض عينيك وتخيل أمنا الأرض كطاقة جميلة وإيجابية، وتأمل فيما تتلقاه منها (على سبيل المثال، الرعاية، الصبر، الحب، التقدم، الفرح).
رسم الدائرة الأساسية
* ارسم دائرة على الورقة. ليس من الضروري أن تكون الدائرة مثالية، بل استمتع بالعملية.
إضافة خطوط نيوروجرافية
* ابدأ من أي نقطة داخل الدائرة، وارسم خطاً متموجاً مستمراً عبر الدائرة، بقصد التخلص من التوتر والمعتقدات المُقيّدة.
* فكر في ما ترغب في الحصول عليه من أمنا الأرض (مثل: المال، الحب، السعادة) أثناء رسم الخطوط.
* تأكد من عدم وجود خطوط مستقيمة، يجب أن تكون جميعها متموجة ومرسومة بشكل طبيعي.
تقريب الخطوط
* أينما التقى خطان، ارسم منحنيات مقعرة لتنعيم الحواف، وهذا ما يسمى "التقريب".
* تخيل هذه العملية كعملية إزالة للعوائق اللاواعية أو "تنقية النفس".
إضافة الألوان
* قم باختيار 4-5 ألوان.
* قم بتلوين ما لا يقل عن 4-5 أقسام من الرسم.
* قم بمزج الألوان بسلاسة للحصول على تأثير متدفق، بدلاً من تلوينها كقطع الفسيفساء.
إكمال الرسم
* بمجرد الانتهاء من التلوين، يكون رسمك النيوروجرافي جاهزاً!
* استمتع بهذه التجربة، وتأمل في رحلتك الإبداعية وكن ممتناً لما تلقيته.
يتجلى سحر العلاج الإبداعي في كونه متاحاً للجميع، دون الحاجة إلى امتلاك موهبة فنية، فكل ما يتطلبه الأمر هو الرغبة في خوض التجربة. ويُعدّ جوهر العلاج الإبداعي هو التعاطف مع الذات، والتخلي عن إصدار الأحكام. تُشجعنا هذه الممارسات على تقبّل عيوبنا، ومُداراة أنفسنا بالصبر، والتركيز على رحلة الإبداع بدلاً من القلق بشأن النتيجة. ويُعدّ هذا التحوّل في طريقة التفكير مفيداً خصوصاً لمن يعانون من النقد الذاتي المفرط، أو التوتر المزمن، أو الصدمات النفسية، إذ يسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم بحرية دون الخوف من الفشل أو النقد.
من خلال الانغماس في الفن أو كتابة اليوميات أو الرقص، يمكننا الاستفادة من إيقاع الحب والتواصل اللامحدود داخلنا، وهو صدى يتردد في روح كل فنان حقيقي. تُذكرنا هذه العملية بأنّ نبضات الإبداع هي الطريق نحو الشفاء واكتشاف الذات، حيث تتناغم البراعة مع الأصالة.