"صدى الأيام"يعود بعد 30 عاماً ليحكي تاريخ الفنون الإماراتية
أمضت الإعلامية الإماراتية مها قرقاش، برفقة الباحث الإماراتي خالد البدور، أكثر من عامين في رحلة استكشافية شيّقة، بحثاً وتصويراً، لتوثيق تاريخ الموسيقى والرقص والشعر التقليدي في دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد أثمرت جهودهما عن مسلسل وثائقي قيّم بعنوان "صدى الأيام"، صدر عام 1993 باللغتين العربية والإنجليزية، ليصبح علامة فارقة في تاريخ الدولة، وشاهداً على إرثها الثقافي العريق.
واليوم، أصبح بإمكان سكان الإمارات مشاهدة مقتطفات من هذه السلسلة الوثائقية القيّمة، المؤلفة من ستة أجزاء، وذلك ضمن فعالية مؤقتة تُنظّمها شركة "السركال أفينيو" في متحف الاتحاد. تُعرض هذه المقتطفات للجمهور مجاناً في غرفة الوسائط بالمتحف، وذلك حتى 16 يناير 2025.
وفي أمسية مفتوحة، شاركت مها قرقاش وخالد البدور ذكرياتهما المُمتعة عن رحلة تصوير هذا العمل الوثائقي، مُستذكرين بعض المواقف الطريفة والتحديات التي واجهتهما، والحوادث التي لا تُنسى خلال فترة إنتاج المسلسل، الذي أنتجته قناة دبيّ بين عامي 1987 و1990.
وقالت مها: "لقد تطلّب العمل مجهوداً كبيراً، وكثيراً ما كنا نحاول إقناع الممثلين بالقيام بأشياء معينة للمسلسل الوثائقي. أتذكّر في أحد المشاهد، قمنا بترتيب مجموعة من الآلات الموسيقية بعناية على قمة كثيب رملي، ورغبنا في الحصول على لقطة جوية بانورامية. ولكن مع هبوط الهليكوبتر لتصوير اللقطة، تطايرت الآلات الموسيقية في جميع الاتجاهات بفعل قوة الهواء! فاندفعنا جميعاً نحوها لإنقاذها."
إنتاج ضخم
عندما لاحت فكرة المسلسل الوثائقي في ذهن خالد، كانت في البداية مجرّد مشروع إذاعي بسيط. لكن مع انغماسه في البحث، وجد نفسه أمام بحر زاخر من القصص الملهمة عن علاقة البدو بالموسيقى والشعر والصحراء. يقول خالد: "انفتح أمامي عالم جديد كلياً، ورغم أنني من دبي، إلا أنني اكتشفت جوانب مدهشة لم أكن أعرفها من قبل عن تراث بلادي".
كما أدرك أن هذه الأغاني لا يجب أن تُسمع فحسب، بل يجب أن تُرى أيضاً، وأن تُجسَّد بصرياً. وأضاف: "شعرت أن الناس بحاجة إلى رؤية كيفية أداء هذه الأغاني، وكيف كانت تُستخدم الطبول والهتافات، وكيف كان يُغنّى على ظهور الجمال". وحتى كإنتاج تلفزيوني، كان خالد يأمل في إنتاج وثائقي صغير. وأردف قائلاً: "كنت أفكر في ثلاث أو خمس رقصات، ثم إجراء مقابلات مع بعض من مؤديها".
ولتجسيد فكرته بصرياً، تواصل خالد مع مها قرقاش. تتذكر مها تلك اللحظة قائلة: "في البداية، شعرت ببعض التردّد، فلم أكن متأكدة من نجاح الفكرة. تساءلت: كم عدد الطبول التي يُمكننا عرضها؟ أليس الأمر مُملاً بعض الشيء؟ لكن عندما عرضت الفكرة على مديري، أُعجب بها كثيراً، وقال لي بحماس: لننفّذها!".
عندما بدأ تصوير المسلسل الوثائقي، كان من المفترض أن يكون إنتاجاً صغيراً. لكن مع مُضيّ الوقت، أخذت الأمور تتّسع وتتطوّر. تقول مها: "لقد تحوّل المشروع إلى عمل ضخم! كان خالد قد حدّد في البداية خمسة أشكال فنية فقط، لكن انتهى بنا المطاف إلى تصوير 25 شكلاً فنياً مُختلفاً، كلٌّ منها يحمل طابعه الخاص وجمالياته الفريدة".
إنجاز كبير
وكان الهدف الرئيسي من هذه السلسلة الوثائقية هو تسليط الضوء على تنوّع الرقصات والشعر الإماراتي، وعرضه على العالم. ومن بين الفنون التي تمّ استعراضها، رقصة العيالة الشهيرة. تقول مها: "لقد تعمّقنا في التفاصيل الفنية لهذه الرقصة، وتتبّعنا أسباب استخدام العصيّ فيها، والتي تُمثّل الرماح. كما ركّزنا على إيقاعات الطبول التي تُحاكي صوت قيادة الجيش إلى المعركة. لقد كانت في الأصل صرخة حرب، تحوّلت مع مرور الزمن إلى موسيقى ورقصة احتفالية".
وأشار خالد إلى أنهم، إلى جانب رقصة العيالة، وثّقوا العديد من الرقصات والأغاني الإماراتية المُتنوعة. وأضاف: "في المناطق الجبلية، وجدنا أغاني تُغنّى أثناء الزراعة أو وقت الحرب، بينما في المواقع الدينية، تُردّد الأغاني التي تمجّد النبي محمد صلى الله عليه وسلم. كما اكتشفنا رقصات تأثّرت بالثقافة الأفريقية، وطبولاً جاءت من الهند، وبعض الفنون ذات الأصول الفارسية. وكانت هناك مجموعات تمارس هذه الفنون كهواية وتبدع فيها".
بدأ خالد بتوثيق هذه الأشكال الفنية بعناية فائقة، حريصاً على حفظ أي معلومة يمكنه العثور عليها. وهكذا، أصبح المسلسل الوثائقي أحد أفضل المصادر في الدولة الي تعرف الفنون التقليدية الإماراتية، حتى أنّ بعض أجزائه تُستخدم اليوم كمادة تدريبية. وقال خالد: "في أحد المراكز في أبو ظبي، يتم استخدام مقاطع من مسلسلنا الوثائقي لتعليم الجيل الجديد بعض الفنون التراثية". وأضاف: "كما تستخدم جامعة نيويورك في أبو ظبي هذا المسلسل كمرجع للدراسات الثقافية".
وأضاف أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، عندما عقدت مؤتمراً للحفاظ على التراث الثقافي غير المادي للدول، تواصلت مع الثنائي للحصول على مقتطفات من المسلسل الوثائقي. وقال: "أرادوا توثيق رقصة العيالة، فقاموا بتصوير فيديو باستخدام فرقة محلية، لكنّ التصوير لم يكن في بيئته الأصلية، بل في حفل زفاف. لذلك اتصل بنا فريق اليونسكو وطلب منّا إدراج مُقتطفات من مسلسلنا الوثائقي في فيلمهم".